المحرقةالتي تجري في غزة ليس لديها ما يحاكيها في كل ما قيل عن المحارق أمثالها.فهي ليست قتلاً بطيئاً من خلال حصار شامل فقط، وهي ليست حرقاً ساحقاًللبشر والحجر فقط، إنها كل ذلك الذي يجري من حرب إبادة أمام أعين مؤسساتدولية تبحلق في عيون الأطفال التي يطفئها الفوسفور، والجثث والأشلاءالمتناثرة، وأمام المؤسسات العربية التي تتسمر حول الشاشات تستمع إلىنداءات النجدة، واستثارة الحمية التي بدت كلها في غيبوبة.
هذهالمحرقة لم تستثر مؤسسات المجتمع الدولي، كما لم تنفذ بعد إلى عقول الدولالعربية وقلوبها. وبدل أن يجعل العرب غزة مَوَحدَة لهم، يتعالون بأطفالهاالمشوهة أجسادهم على خلافاتهم، ويتنادون إلى نداءات نسائها الشجاعات،جعلوها تئن أكثر بسبب خلافاتهم، وتركوا أصداء نداءات أهلها تضيع وسط هديرالدبابات، وأزيز الطائرات، ودخان الحرائق.
تتواصل المحرقة، وبتواصلها تحرق كثيراً من القيم في العالم وفي منطقتنا. فكمسيتبقى عند الناس من ثقة بالعدالة الدولية، وكم سيظل في أنفسهم من احترامللمؤسسات الدولية التي تعجز عن القيام بأبسط ما يتوقعه الناس منها؟ تلكخسارة صافية للنظام الدولي، لأنه يفقد الناس الثقة في قدرته على مساعدتهم،وتجعلهم يتطلعون إلى سبل أخرى لن تساعد على الاستقرار أو السلام.
والعجزالعربي في مواجهة تحدي محرقة غزة ستكون له آثار عميقة في الكيان العربيالمتشرذم أصلاً. فإذا رأت كل دولة عربية هذا العجز عن إنقاذ جزء منهايتعرض للقتل والتدمير، فكيف ستثق بأنها إذا تعرضت مستقبلاً لمثل هذهالمخاطر أن يهب إخوانها إلى نجدتها؟ لقد تعرضت الثقة إلى ضربة قاتلة قدتدفع البلدان على اختلاف مواقعها للبحث عن سبل للأمان من خارجها، ما يؤديليس إلى مزيد من التفتت فقط، وإنما إلى الأخطر من ذلك، إذ إن التحالفاتالجديدة قد تكون مقدمة لصراعات عربية عربية توهن الجسد العربي أكثر مما هو الآن.
ثمإن العجز في غزة، والسماح للكيان الصهيوني بتحقيق أهدافه، لن يؤديا إلىلجمه عن المضي في مخططاته إنما إلى نقيض ذلك، حيث سيجد في الضعف العربي،والتمزق العربي، فرصة لتحقيق ما يريده. ولعل من بديهيات الأمور التي ينبغيعلى كل مسؤول عربي إدراكها، أن الكيان الصهيوني ليست لديه ضمانة حقيقيةللبقاء، كما يعتقد، إلا في وطن عربي ضعيف، وممزق، ومتقاتل.
ليستغزة التي تحتاج إلى الإنقاذ من براثن هذا الوحش فحسب، وإنما البلدانالعربية التي يتهددها عجزها، وكذلك الوحش الصهيوني الذي يطمع بالتهامهاكلها، قطعة بعد قطعة.
دار الخليج